التعليم في المغرب: الجودة في "الأبعد"… والخلل في الأقرب

 التعليم في المغرب: الجودة في "الأبعد"… والخلل في الأقرب
آخر ساعة
الجمعة 28 نوفمبر 2025 - 9:57

لم تكن تصريحات وزير التربية الوطنية محمد سعد برادة مجرّد سقطة تواصلية عابرة، كما قد يرغب البعض في تصويرها، بل شكلت، في عمقها، مرآة لما تعيشه المنظومة التعليمية المغربية، بين خطاب رسمي يَعِدُ بالإنصاف وجودة التربية، وواقع ميداني يزداد هشاشة واتساعًا في فجواته المجالية والاجتماعية.

فالوزير، وهو يخاطب جمهورًا حزبيًا بمدينة ميسور، قدّم “نصيحة” مفادها أن من يريد تعليمًا جيدًا لأبنائه عليه أن يبحث عن “أبعد مدرسة”، مبررًا ذلك بكون المؤسسات الجماعاتية والمدارس الرائدة أكثر جاهزية وكفاءة.

غير أنّ هذه الجملة، وإن قدّمها الوزير بروح “التجربة الشخصية”، اصطدمت بحقيقة أن المدرسة العمومية ليست منتوجًا تجاريًا يجري البحث عنه في سوق تنافسية، بل هي حق دستوري يجب أن يتوفر قريبًا من المواطن، لا أن يُدفع المواطن بعيدًا بحثًا عنه.

ردود الفعل الغاضبة، من برلمانيين وفاعلين تربويين، لم تكن مجرّد حساسية سياسية تجاه تصريح خشن، بل عبّرت عن قلق أعمق.. كأنّنا بالدولة عاجزة عن توفير تعليم عمومي قريب، منصف، وذي جودة.

هذا ما أشارت إليه النائبة فاطمة التامني عندما اعتبرت كلام الوزير “تلخيصًا مرعبًا لفلسفة حكومية ترى المدرسة العمومية عبئًا لا استثمارًا”.

تصريحات الوزير سلّطت الضوء على ثلاث صور قاتمة تتمثل في فشل الدولة في جعل التعليم العمومي متاحًا جغرافيًا واجتماعيًا، إذ يصبح على الأسر أن تنتقل لاختيار مدرسة تستحق أبناءها، بدل أن تكون المدرسة الجيدة هي التي تقترب منهم، وكذا في تعميق الفوارق الطبقية، فليس كل الآباء يملكون سيارة أو قدرة مالية لنقل أبنائهم يوميًا، ما يعني أن جودة التعليم تصبح امتيازًا، وأخيراً إضعاف الثقة في المدرسة العمومية، خصوصا حين يصف الوزير بعض الأساتذة بـ“أكفسهم”، فإن الرسالة تصل مباشرة: لا تراهنوا على أقرب مدرسة… ولا على الدولة.

القيادية أمينة ماء العينين  شددت في ردة فعلها على بُعد آخر: أن المشكلة ليست فقط في التصريح، بل في طريقة تواصل مسؤول حكومي يفترض أن يُطمئن الأسر، لا أن يزيد من ارتباكها.

فحديث الوزير، وفق ماء العينين، بمنطق “رئيس شركة” يروّج لمنتوج، وليس بمنطق “وزير” يرسم سياسات عامة، خلق انطباعًا بأن المدرسة العمومية سلعة، وأن على الأسر البحث عن “العرض الأفضل” في سوق بلا ضمانات.

الخلاصة أن المدرسة ليست رحلة بحث مضنية، ولا مسافة تُقطع يوميًا، بل هي مشروع مجتمعي يُفترض أن يُبنى قرب بيوت الناس، ضمن رؤية عادلة تضمن للأطفال تعليمًا متساويًا في الحقوق والفرص.

وإذا كانت المدارس الجماعاتية تستحق التثمين، فإن الحل ليس في دفع الأسر إلى الارتحال نحوها، بل في رفع مستوى باقي المدارس لتصبح كلها “رائدة”.

إنّ نقل الدواوير إلى المدرسة، حرفيًا أو رمزيًا، ليس سياسة تعليمية. هو وصفة للانسحاب من مسؤولية الدولة، وإلقائها على كاهل الأسر.

ختاماً، لا يمكن لوزارة التربية أن تُقنع المغاربة بإستراتيجية “إصلاح” بينما الخطاب الرسمي يُشيح بوجهه عن الأسئلة الكبرى: أين هي العدالة المجالية؟ لماذا تتسع هوة الجودة بين مدرسة وأخرى؟ وما معنى أن تصبح المدرسة الجيدة استثناءً بدل أن تكون قاعدة؟

تصريحات الوزير لم تثر الغضب فقط لأنها غير موفقة… بل لأنها لامست جرحًا عميقاً يتمثل في مدرسة عمومية تبحث عن ثقة فقدتها، ومواطن ينتظر من الدولة أن تقرّب الحق بدل أن تبتعد به.